04‏/04‏/2012

لمخلفون من الأعراب (الحلقة الثانية) : عندما يعظ القوميون - بقلم: الأستاذ اكناته ولد النقره


لا تتورع الآلة الدعائية القومية عن إلصاق التهم وكيل الافتراءات المغرضة في حق كل من وقف في صف الشعوب المنتفضة أو ساندها أو أدان المذابح الفظيعة المرتكبة من الأنظمة العصبوية بحقها، طال فحيحها هيئات ومدارس فكرية وتيارات ورموز وشخصيات علمية وفكرية وسياسية نكن لها كل الإجلال ونحترم عطاءها وتضحياتها في سبيل قضايا أمتها وشعوبها العادلة.
   

 قد لا يكون مستغربا وفق ذات السياق أن يحمل كاتب قومي مثل الدكتور محمد إسحاق الكنتي في إطلالاته الإعلامية المنتظمة على جماعة "الإخوان المسلمين"، فلا يرى فيهم أكثر من طلاب سلطة يوظفون الدين لأغراض سياسية محضة، ويتهم رموزا علمية مثل يوسف القرضاوي وصادق الغرياني ومحمد الحسن ولد الددو بالتحريض على الفتن وهو ما ليس مستغربا في نظر الدكتور لأن "الشيخين المصري والموريتاني ـ على حد تعبيره ـ عضوين بارزين في تنظيم الإخوان العالمي وأن من يقود الثورة المضادة هم الإخوان والليبراليون." لكن المستغرب حقا في نظرنا هو غمز الدكتور اللافت في "علمانية" برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري ـ المعارض ـ واستشكاله الشرعي في جواز الدعاء له ولمتمردي الجيش الحر بالنصر وتشكيكه في إخلاص نيات من دعا إلى نصرة العلمانيين وانغمس في الفتنة (مقال خطباء الميدان).

الآن فقط (في دين القوميين) صار اعتناق العلمانية تجديفا ومسبة وأصبحت مناصرة المتشيعين لها ولو بالدعاء والميل القلبي أحرى موالاتهم والالتحام بكتائبهم مرادفة للنفاق العملي وبشهادة الكنتي!

لم يفطن أخونا محمد إسحاق الذي عاش 20 حولا من عمره الثوري المديد في خَلَفِ اللجان الثورية لوطأة 40 ربيعا من الزحف الأحمر نحو علمنة الدولة والمجتمع على أرض عمر المختار وسعدون السويحلي والفُضيل بوعمر ولم يشعر بمثل الحرج الشرعي وضيق العطن الذي يشعر به الآن تجاه من أسماهم "بخطباء الميدان" المحرضون "بغيا وحرابة" على دولة الخلافة الراشدة الحاكمة على منهاج النبوة، سعيا لاستبدالها "بدولة برهان العلمانية وثواره الذين يوالون النصارى ويترحمون عليهم"! ـ زعم ـ

لم يَدَّعِ بشار يوما ولا أبوه الأسد ولا أحد من الرفاق قبلا، أن الدولة الطائفية التي أقامها البعث في سوريا هي دولة دينية (إسلامية) ولا اعتبروا الدين حتى مرتكزا من مقومات الكينونة الحضارية للأمة العربية، بل كانت العلمانية التي يلمز بها الدكتور الآن جوهر عقيدتهم السياسية وفق ما شرحها منظر هذا الفكر: "فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي يحررها الدين من ظروف السياسة وملابساتها" (في سبيل البعث للرفيق عفلق) علمانية تتولى تنقيح السياسة من الدين لتصبح حرة بلا دين وهو ما يبيح للسياسي التحلل من (طقوس الدين) "قد لا نرى نصلي مع المصلين أو نصوم مع الصائمين ولكن نؤمن بالله ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان ولم نبدأ به" (المرجع السابق).

يقع الدكتور محمد إسحاق في فخ أسر النماذج التاريخية وهو يستدعي في مرافعاته عن بشار ونظامه مثال أمير (خليفة) أموي يلي الأمر بالوراثة في زحام أكثر من شرعية منافسة ليس أقلها دعاة الشعوبية من غير الأرومة العربية وأحفادهم الجدد من إخوان الشيخين المصري والموريتاني.

لكن الزمان استدار على غير مثال الكنتي فأصبحت حاضرة الأمويين حديقة خلفية ترتع فيها بغال الصفويين وتَسَرَّى رعاة الدجاج في "حدائق رستم" بحرائر الشام متمتعين بالحج إلى "العتبات المقدسة" على نحلة النصيري وأصبح التسنن مذهب الخوارج المتعجلين، لا يابه الدكتور لشيء من ذلك وقد اضطره الدفاع عن نموذجه الثوري لدولة الخلافة إلى إعادة قراءة (التراث) مجددا فيستظهر التفسير مع القرطبي والطبري والزمخشري... ويستقرأ الصحيحين ومنهاج النووي ويبلغ المرام من أدلة الأحكام في شروح ابن عثيمين ويستفتح ما استغلق ويستبين ما أجمل من "واضحات تواصل ومكنياته" ببـيّنات الجاحظ وخصائص ابن جني.
ثم يعرج على الأصول فيقف مع الأرموي على "الحاصل من المحصول" في أصول هذا العلم ـ الذي انتحله أقوام تمويها وتدليسا ـ ولا يستوقفه شيء ما استوقفه الواجب ومعناه في عرف الشرع (ونحن في زمان غلب فيه على الناس الاشتغال بالمفضول)، وفرض العين وواجبها وأوجه خلاف الأصوليين في ذلك مما علا فيه الكعب أو هبط ليخلص إلى أن الواجب هو عين الفرض فماذا عن "واجب الوقت" "وفريضة الواقع" في مطالعات الدكتور العلمية ومطارحاته الفكرية الفلسفية، التي لم تثمر سوى إسقاطات مبتسرة بالمقلوب يغذيها هاجس الخوف من الفتنة والتشاؤم حيال ما تشهده المنطقة من تحولات جذرية تبشر بمستقبل أفضل لشعوبها التي عانت من الاستبداد السياسي والحرمان الاقتصادي لعقود طويلة.

إسقاطات تحاول يائسة إعادة إنتاج فكر وثقافة الانبطاح والوقوعية السياسية قراءة تعظ بفقه "الخويصة" على دل وسمت أصحاب العمائم الرسمية واللحى السلطانية المتصدرين هذه الأيام ممن يرتجزون "سلطان غشوم خير من  فتنة تدوم" يحذر منها الدكتور وقد رأى نذرها بأم عينه "يافع من الخطباء يجلس فوق منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بإفك الجزيرة، لم يكن ذلك اليافع سوى علامة صغرى"، "لمحرشي الفتن والمحرضين على الفوضى المفضية إلى زعزعة السلم الاجتماعي وإتلاف الممتلكات العامة وتعطيل مصالح المسلمين."عجبا لهم! يردف الدكتور: "لم ير عمر ولا أسامة بن زيد ولا غيرها من كبار الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة أن من الواجب عليهم نصرة الإمام علي ولم ير علي رضي الله عنه وجوب نصرته عليهم فتركهم واجتهادهم ... فكيف جاز لذلك الخطيب (التواصلي) فرض نصرة الثورة السورية على الموريتانيين،" ألا يسع هؤلاء ما وسع أولئك؟

ليس من المستغرب ولا المستبعد أن يسوغ في دين القوميين المَدخَليين الجُدد (نسبة إلى المدخلي) رفع الأسد ومعمر إلى مصاف الخلفاء الراشدين المهديين ـ كما رأينا في إسقاطات الدكتور العرجاء ولا دمغ الخارجين عليهم المنابذين لما هم عليه من البغي وتنكب صراط الله المستقيم، بالمروغ من الدين وموالاة الكافرين.
لقد أشرب القوميون في قلوبهم هزائم سبع وستين وست وثمانين وألفين وثلاث وضاعت عليهم إشارات المرور من اليمين إلى اليسار وسط خوار ثيرانهم الهائجة.

ضعاف الأسد أكثرها زئيرا                    وأصرمها اللواتي لا تزير

شاهد عيان من ليبيا
"شاهد ما شاف ش حاجه"



عنوان مسرحية هزلية هابطة لفنان كوميدي غير جاد هو عادل إمام، تذكرتها وأنا أقرأ مقال الدكتور محمد إسحاق الكنتي "شاهد عيان من ليبيا" الذي نشره منذ بعض الوقت بموقع "الحصاد الموريتاني"، وهو المقال الذي يبدو أن الدكتور أراد أن يقيم فيه الشهادة لله - تأثما- من قوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها  فإنه آثم قلبه} في زمان أصبح فيه العدول نزور وفشا فيه شهود الزور، رغم أنها ـ كما اعترف ـ قد تفتح باب التأويل واسعا تمشيا مع القراءة الماركسية للأفكار، "إلا أن انفضاض الطفيليين ممن كان يحترم أقلامهم وحناجرهم وقلبهم ظهر المجن لثورة طالما تغنوا بأمجادها وطالما كرمتهم، دفعه للخروج عن صمته لأن الصمت في مثل تلك الظروف تواطؤ والحياد "جبن".
يسوق الدكتور الحصيف شهادته من ليبيا كلها بعد أن يقرر في تعالم رابض وهو الذي أقام بها أكثر من عشرين عاما" جهل الناس بحقيقة الأوضاع هناك وما الذي يحدث حقيقة، يلتقى على ما يبدو الناس ويجوس عبر الحواري والحارات فيكتشف "أن الشعب الليبي ليس شبيها بالمجتمع التونسي أو المصري ( تماما مثل اكتشاف سيف الإسلام)! .

ثم يتقدم فلا يرى إلا "غالبية عظمى من الشعب الليبي تظل مؤيدة للنظام" أما مشروع الثورة المضادة فلا وجود له إلا في أذهان قنوات الفتنة وشيوخها أليس من العجيب أن  يحرض مشاييخ محترمون على الفتنة بدل أن يدعوا الطرفين إلى الصلح وحقن الدماء لكن  الأمر ليس غريبا إذا عرفنا أن الشيخ الموريتاني والشيخ المصري عضوين بارزين في تنظيم الإخوان العالمي وأن من يقود الثورة المضادة هم الإخوان والليبراليون."

وإذا اتجه الدكتور إلى الإعلام فهو لا يصدق ولا يريد أن يصدق "ما تقدمه قنوات الفتنة من تضليل يظهر الثورة معزولة تستخدم القوة بإفراط إنها في نظره حرب إعلامية مفتوحة"تستخدم فيها وسائل الإعلام في حملة من التضليل لا سابق لها"!

ثم يلخص إلى أن القضية في جوهرها" هي قضية حرب مكشوفة تشن ضد شعب آمن تسعر من الخارج عبر تحالف جديد بين الليبراليين والإسلاميين.

لو كانت شهادة الدكتور-المتأثم- تلك قد سيقت من سرت حيث مسقط رأس القائد الراحل - قدس سره- والخميرة الملائمة لتكاثر الخلص من المتصوفة والأشياع من أضراب الدكتور لالتمسنا له مع غيرنا بعض العذر في الشهادة بما يعلم، ولكنه يسوقها من الجماهرية فردا فردا بيتا بيتا ...أليس أهل بنغازي مواطنون ليبيون أيضا مثل أهل سرت ألا يستحقون من الدكتور كلمة حق بحق أبنائهم الذين ذبحوا بدم بارد كالخراف في "سجن بو سليم" إلي جانب المئات من أبناء ليبيا الأحرار ألم يسمع الدكتور أو يرى ما حل بأهل "مصراتة" الوادعين على أيدي كتائب القذافي وقناصته ألم يعن الدكتور نفسه بالسؤال عما حل بمدن الغرب الليبي المسالمة من دمار وخراب على أيدي جحافل القائد ...

لقد هانت عليه كل تلك الدماء الزكية مثلما هانت على الرفاق من قبله فآثر الوقوف مع مصالحة  ومنافعه الشخصية الضيقة ولم يشعر بأي خجل أو غضاضة وهو يحدث عن نفسه "أقمت في الجماهيرية أكثر من عشرين سنة وفيها أتممت دراستي الجامعية الأولى والعليا، لكن هذه السنين نسجت حولي مجموعة من العلاقات والصداقات... كل أولئك الأصحاب الذين تقاسمت معهم حياتهم أشعر اليوم أن من واجبي أن أقف إلى جانبهم وقد فعلت" لكن الدكتور يذهب في مؤازرته للشعب الليبي إلى أبعد من ذلك  حين يقطع على نفسه الوعد "بالصمود في سرت قصفت أم لم تقصف" لا بل والقتال" فإذا كان هناك موريتاني يقاتل مع النظام فهو الدكتور محمد إسحاق بن الداه بن سيد لمين بن أحمد الكنتى وسيقاتل معه لأن تلك قناعته ولأن العرب تقول "لا يترك الفتى صديقه حتى يموت أو يرى طريقه( لعله قصد الاستشهاد بيت أبي البخترى وهو ينازل المجذر بن زياد - رضي الله عنه-

لن يترك ابن حرة زميلة     حتى يموت أو يري سبيله)
انتسب الدكتور في المقال المذكور ـ على غير عادته ـ ربما وفاء منه لتقليد حربي عربي قديم استمر إلى صدر الإسلام، فكان الفارس العربي إذا برز لنده انتسب رفعا للروح المعنوية ربما أليس من العجب أن يجد الدكتور أقرب إلى وجدانه وأنسب لمقامه التغني ببيت ملحون لمشرك مات على جاهليته من التمثل والتأسي بأبيات قاتله الصحابي المجذر بن زياد ـ رضي الله عنه ـ وهي قوله :
إما جهلت أو نسيت نسبي          فأثبت النسبة إني من بَلِي
الطاعنين برماح اليزني            والضاربين الكبش حتى ينحني
أنا الذي يقال أصلي من بَلِى       أطعن بالصعدة حتى تنثني

جميل أن يتذكر الدكتور نسبته إذ ذاك وهو العربي القح حتى لا تضيع وسط الأخلاط من الكتائب وقد تزاحمت حُميا الوطيس بالركب، ولكن الأجمل هو فرحنا بعودته سالما من ملحمة "أبي زيد الهلالي"، وبعد ما لبس لَأْمته، وإن همس شاغب بأنه "ما كان ينبغي للكنتي  ـ تأسياً ـ أن يضع لأْمتَه بعدما لبسها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً " فما كان يسرنا ـ والله ـ أن يموت على ما مات عليه القناصة "في شعبية الموريتانيين" من عصبية قومية وحمية جاهلية، وما تطيب نفوسنا أن يسعى بين يدي القائد "يوم التغابن" والكتائب من حوله حاملا "لواء العصبية المنتنة" قال تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا}[الإسراء الآية 71].

ليست هناك تعليقات: